السبت، 7 يوليو 2018

كلكم حواريون، فمن يهوذا؟ أحمد الزيات

لا تسمع من أي إنسان في أي مكان إلا تذمراً على حال المجتمع، وتضجراً من نظام العيش، وتضوراً من فساد الحكم، وتحسراً على أخلاق الناس! فما من سياسي تلقاه إلا رأيته لهيف الجوانح، ذاهب القلب، لا يملك عينه من الدمع، ولا قلبه من الوجد، ولا لسانه الشكاة: أضاعوا البلاد.. يقول كل سياسي هذا الكلام، ويلوم!!
وما من موظف تراه إلا حدثك والهم يعتلج في صدره، والأسى يتلضى على وجهه، كيف تحكمت المحاباة في دوائر الحكم، وفشا التواكل في دوواين الحكومة!
يقول كل موظف هذا الكلام، ويتهم هذا الاتهام، حتى أولئك الطفيليون الذين عينوا لقبض المرتب، وظلوا على الشيوع من غير عمل ولا مكتب!! 
وما من أديب تخلوا إليه إلا نثر عليك دموع الخنساء، ونظم في مسمعيك تشاؤم أبى العلاء، وسألك وهو متبلد من الحيرة، متلدد من الدهش: متى كان البذاء من الأدب، والهجاء من النقد، والإدعاء من الفن، والتقليد البهيم من العبقرية، والكيد اللئيم من الصحافة؟؟ 
يقول كل أديب هذا الكلام، ويلقي عليك هذا الاستفهام، حتى أولئك السفهاء الذين يلبسون ظلماً مسوح الأدب، ثم يلتمسون الظهور بالوقيعة في كل من كتب!! 
وما من رجل من رجال الدين تجلس إليه إلا قال لك ودموع الحسنين تنهل على ردنه العريض انهلال القطر: لم يبق للدين في هذه الدنيا سلطان، ولا للخلق في هذه الفوضى مكان، ولا للفضيلة في هذه المادية قيمة! ولقد استشرى فساد العصر حتى نال من تقوى العلماء فأصبحوا يأنفون من الورع، وينفرون من البساطة، ويتأبهون عن العامة، ويمدون أعينهم لشهوة الحياة، ويذهبون أنفسهم على فتنة الحكم، ويتخلون عن الدعوة إلى سبيل الله إلى الدعوة إلى أهواء الفرد!! 
يقول كل عالم هذا الكلام، ويهتم هذا الاهتمام، حتى أولئك الضعفاء الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وجعلوا من نفوسهم إلى الباطل سبيلا ودليلا
وما من تاجر تعامله، أو صانع تقاوله، إلا ابتدرك بالزراية على الذين نفقوا على الغش، وآثروا على الخداع، وسلبوا ثقة الشعب باسم الاخوة، وسرقوا مال الجمهور باسم الوطن، حتى جعلوا التجارة والصناعة فيما بينهم وبين الناس معنى من معاني النهب، وحيلة من حيل الشطارة؛ فأنت تدخل المتجر أو المصنع وفي حسك لا محالة انك مغبون في السعر، أو مخدوع في النوع، أو مظلوم في التقدير
يقول ذلك كل تاجر وكل صانع حتى أولئك الذين قضى عليهم موت الضمير أن يصدقوك في البيع ويكذبوك في التسليم، ويعاهدوك على نوع فيغيروه ولا يزيد رجعهم من غشه على مليم
وهكذا تسمع هذا السخط الحاقد والنقد اللاذع والتعريض الممضّ والزراية الساخرة، من كل لسان في أي طبقة، وفي كل حديث في أي مجلس، فتقف موقف المشدوه بين العجب والغضب وتسألإذا كنتم يا قوم جميعاً حواريين، فمن الذي خان الوطن؟؟ كلكم يلوم فمن الملوم؟ وكلكم يتهم فمن المجرم؟
وعظ مالك بن دينار عظةً تقاطرت عليها دموع أصحابه، ثم افتقد مصحفه! فنظر إليهم وكلهم من أثر كلامه لا يملك عينه! وقال: "ويحكم! كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟!"
*****
أديب العربية (أحمد حسن الزيات) (١٨٨٥-١٩٦٨م). من كتابه (وحي الرسالة-الجزء الأول)، بتصرف كثير.
نعيم الفارسي
07.07.2018
#كلكم_حواريون_فمن_يهوذا
#أحمد_حسن_الزيات
#كتاب_وحي_الرسالة_الجزء_الأول

#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي