يعمل (صالح علماني) منذ نحو ثلاثة عقود (وقت صدور الكتاب) على ترجمة أدب أمريكا اللاتينية، والآداب المكتوبة بالإسبانية عموماً، كما لو أنه ورشة عمل متكاملة. ويعود الفضل إليه في ترجمة عشرات الروايات التي شكّلت ما يُسمى بموجة (الواقعية السحرية). ينطلق (صالح علماني) صباحاً من منزله في ضواحي دمشق إلى مكتبه في الهيئة العامة السورية للكتاب. هناك يتناول قهوته الصباحية، يجول في مواقع الكتب الإسبانية على شبكة الإنترنت. عندما يعجبه كتاب جديد، يوصي به على الفور. يترجمه إلى العربية بلغة رشيقة ومصقولة، ليجد القارىء نفسه في لذة القراءة، كأن الكتاب مكتوب باللغة العربية.
لكن كيف بدأت علاقة المترجم باللغة الإسبانية؟ يقول: "في عام ١٩٧٠م غادرت (برشلونه) لدراسة الطب، ثم تركته لدراسة الصحافة. لكنني صمدت سنة واحدة فقط، عملت بعدئذ في الميناء واختلطتُ بعالم القاع كأي متشرد. وبينما كنت أتسكع في أحد مقاهي (برشلونه) ذات مساء، قابلت صديقاً كان يحمل كتاباً. نصحني بقراءته. كانت الطبعة الأولى من رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز. عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة. لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها. قررت أن أترجمها إلى العربية..". هذه الملاحظة قادت (علماني) إلى امتهان حرفة الترجمة. يقول: "قلت لنفسي: أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتي الأولى دون ندم وانخرطت في ترجمة روايات الآخرين".
ترجم (صالح علماني) كل أعمال (ماركيز) باستثناء روايته (خريف البطريرك). يعمل صالح علماني ١٠ ساعات يومياً، ويشرح قائلاً: "اقرأ النص خمس مرات، ثم أترجمه مباشرة على شاشة الكمبيوتر. وعندما أنجز بضع صفحات، اقرأ النص الذي ترجمته بصوت عال لمعرفة الإيقاع السمعي للجملة". وعن سؤال أيهما المهم في الترجمة: الدقة أم الأمانة للمضمون؟ أجاب: "الدقة أولاً، الأمانة وحدها لا تبرر تخريب النص الأصلي، هذا لا يعني تغيير أفكار النص، لكل لغة منطقها الخاص، وليس بالضرورة يتقاطع المنطقان بلاغيا".
ما هي الرواية التي يعتبرها (علماني) أكثر متعة أثناء ترجمتها؟ يجيب بحماسة: "(الحب في زمن الكوليرا) لماركيز. هذه الرواية عشتها حقاً كأنني لا أزال مع (فلورينتيو اريثا) ومعشوقته (فيرمينا) نبحر في رحلة ذهاب وإياب مدى الحياة".
بالطبع فإن قارىء اللغة العربية مدين لهذا المترجم البارع برف كامل في المكتبة العربية لأبرز الروايات المكتوبة بالإسبانية، عدا الأعمال الكاملة لماركيز، وأعمال (يوسا)، و(إيزابيل الليندي)، و(جوزيه سارماغو)، و(إدواردو غاليانو)، و(خوان رولفو)، وحفنة من أبرز كُتّاب القارة اللاتينية. ترجماته تصب جميعاً في مسار واحد، وتندرج ضمن مشروع ثقافي متكامل، بدأه منذ ٣ عقود، وقد وضع في حسابه أن ينتهي إلى الرقم مئة، في سلسلة ترجماته المتواصلة. اليوم طوى الرقم الذهبي ودخل المائة الثانية. من يعرف دأب هذا المترجم عن كثب، وعمله المتواصل لعشر ساعات يومياً، لن يصدق مزاعمه عن وجود عشرات الكتب التي تنتظر دورها في الترجمة.
ليس لديه أوقات شخصية، أينما ذهب، يتأبط كتاباً جديداً وصله للتو. لا يهتم (علماني) بالألقاب والإطراءات التي تصله من قُرّاء ترجماته مثل (عرّاب أدب أميركا اللاتينية) أو (مترجم برتبة كولونيل). ما إن بلغ الستين، حتى غادر مكتبة إلى منزله، سعيداً للتحرر من أعباء الوظيفة. تفرغ لترجمة كتب جديدة لم يتح به الوقت لإنجازها.
*****
الروائي (خليل صويلح) من كتابه (قانون حراسة الشهوة)، بتصرف.
03.12.2019
#رحيل_صالح_علماني
#نعيم_الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق