وُلد في أسرة ثرية بارزة، لكنهُ عانى منذ ولادته مشكلات صحية كبيرة جعلت حياته في خطر: مشكلة في العينين جعلتهُ أعمى لفترة مؤقتةخلال طفولته، ومرض فظيع في البطن جعله يتقيأ كثيراً وأرغمه على اتباع نظام غذائي غامض شديد الحساسية، ومشكلات في السمعأيضاً، وتشنجات ظَهر شديدة إلى حد يُبقيه عدة أيام عاجزاً عن الجلوس أو الوقوف منتصب القامة.
ونتيجة مشكلاته الصحية هذه، أمضى معظم وقته في البيت. لم يكن له أصدقاء كُثر، ولم يكن أداؤه المدرسي جيداً. لكنه كان يُمضي أوقاتهفي الرسم. كان ذلك الشيء الوحيد الذي أحبّه، والشيء الوحيد الذي أحس أنهُ جيد فيه. لكن المؤسف أنّ أحداً غيره لم يكن يرى أنه جيد فيالرسم. وعندما كبر وصار رجلاً، لم يقبل أحد شراء لوحاته. ومع مضي السنين، بدأ أبوه يسخر منه، ويقول له إنه كسول عديم الموهبة.
في تلك الأثناء صار شقيقه الأصغر روائياً صاحب شهرة عالمية. وأما شقيقته، فقد كانت تكسب دخلاً جيداً من الكتابة أيضاً. أما هو، فقدكان الشخص الفاشل في الأسرة، كان الخروف الأسود! في مسعى أخير لإنقاذ مستقبله، قرّر والدهُ استخدام علاقاته الواسعة، لتأمين قبولله في كلية الطب بجامعة (هارفارد)، وقال له: "إن هذه هي فرصتك الأخيرة، وإذا أخفقت فيها، فأنت شخص لا أمل فيك".
لكنه لم يكن مرتاحاً أبداً في الجامعة، ولم تُعجبه دراسة الطب على الإطلاق. مضت بضع سنوات، ثم ترك كلية الطب رغم عدم رضا والده عنذلك. وفضّل الابتعاد عن والده بدلاً من مواجهة غضبه الحارق. فالتحق ببعثة أنثروبولوجية إلى غابات الأمازون الخطيرة. كان هذا فيستينيات القرن التاسع عشر، عندما كان السفر بين القارات أمراً شاقاً تحفه المخاطر.
إلا أنه تمكن من الوصول إلى الأمازون حيث بدأت المغامرة الحقيقية. وصل إلى هناك، ومرض هناك، حيث التقط مرض الجدري في أول يومله بعد وصوله، وكاد يموت في الغابات. ثم عادت تشنجات ظهره، وكانت مؤلمة إلى حد جعله عاجزاً عن المشي. مما جعل بقية أفراد البعثةيتركوه في غابات أميركا الجنوبية من غير أن يعرف كيف يعود إلى بلاده. وكانت رحلة طويلة تستغرق شهوراً حتى يعود.
لكنه تمكن على نحو ما، من العودة إلى موطنه، حيثُ استقبله والده الذي بلغت خيبة أمله فيه حدوداً لم تبلغها من قبل. كان صاحبنا في ذلكالوقت عمرهُ قارب الثلاثين عاماً، ولم يزل من غير عمل. كان فاشلاً في كل شيء حاول القيام به، وكان جسده الضعيف يخونه مع عدم وجود مايسمح له بالأمل في أنّ صحته ستصير أحسن. لقد أخفق في كل شيء، وبما أنّ المعاناة وخيبة الأمل رافقاه طوال هذه الفترة، فقد أُصيبباكتئاب عميق، وبدأ يضع خُطط لإنهاء حياته.
لكنهُ جلس ذات ليلة وقرأ محاضرات للفيلسوف الأمريكي (تشارلز بيرس) (1839-1914م)، فجعلته تلك القراءة يُقرّر إجراء تجربة صغيرة. فكتب في يومياته أنه سيمضي سنة كاملة يعتبر نفسه مسؤولاً مئة بالمئة عن كل ما يحدث في حياته، مهما تكن أسباب ما حدث. وسيفعلخلال تلك السنة كل ما في وسعه لتغيير ظروفه مهما يكن احتمال فشله في ذلك كبيراً. وإذا لم يتحسّن شيء خلال تلك السنة، فسيكون منالواضح أنه عاجز حقاً، وغير قادر على مواجهة الظروف المحيطة به، وسوف يُنهي حياته في تلك الحالة.
فما النتيجة؟! لقد صار أبو علم النفس الأميركي، وتُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات، وصار الناس يعتبرونه واحداً من أكثر المثقفين/الفلاسفة/علماء النفس أثراً ونفوذاً في جيله. وصار مدرساً في جامعة (هارفارد)، وتجول في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مُلقياًمحاضراته. وقد تزوج وأنجب خمسة أطفال، وصار واحداً منهم كاتب سِير شهير، وحاز على جائزة (بوليتزر) للآداب.
هل عرفتم من هذه الشخصية الشهيرة؟
إنه الأمريكي (وليم جيمس) (1842-1910م) المشهور بلقب أبو علم النفس الحديث، وأخوه الأصغر هو (هنري جيمس) الروائي الشهير، وابنهكاتب السِير هو (هنري جيمس).
*****
كتاب (فن اللامبالاة)، لـ (مارك مانسون)، بتصرف.
04.01.2020
#نعيم_الفارسي
#كتاب_واحد_قلب_حياته_رأساً_على_عقب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق