في السابق كان يُنظر إلى التلفزيون على أنه أداة يُراد منها أن تُساهم في زيادة وعي المجتمع والرقي بفكر أفراده من خلال إغراقه بالمفيد من البرامج والأخبار والأغاني، وكان يُختار القيمون عليه بعناية فائقة. عند تأسيس قناة (البي بي سي) عام ١٩٢٨م، كان لدى مديرها التنفيذي الأول السيّد (جيرالد كوك) قناعة بأنّ القناة يجب أن تعمل على فترات قصيرة ومتقطعة، وأنها ستُنهي برامجها باكراً وذلك "حتى يتسنى للأطفال أن يناموا باكراً". وقال أيضاً: "قناة (البي بي سي) يجب أن تُنمي الوعي عند الفرد بنفسه ومجتمعه ومن دون هذا المستوى فإنها ستكون خطوة جبارة ولكن للوراء". ولم يكن أحد يعلم أن هذه الأداة (التلفزيون) ستكون خطيرة جداً على عقولنا وعقول أبنائنا.
من المفارقات العجيبة أن الكائنات الحية تقع في المصيدة من خلال استثارة رغباتها. الفأر يُصطاد عن طريق إغرائه بقطعة جبن، والسمكة بطُعم، والإنسان بتلفاز، من خلال استثارة مناطق السؤال في الدماغ، عن طريق الأفلام والبرامج المتنوعة؛ فإن الأنسان يقع في مصيدة الإدمان.. نعم الإدمان.. للأسف هذه حقيقة.
جميع شروط الإدمان كما حددها علماء النفس والسلوك، تنطبق على المداومين على مشاهدة التلفاز. الشخص الذي يواصل الليل بالنهار في مشاهدة التلفاز، هو شخص مدمن. والغريب أن التلفزيون يشكل منصة الإدمان عالمياً. من بين كل أدوات الإدمان الأخرى؛ فإن للتلفاز قدم سبق، فهو الأوفر حظاً والأوسع انتشاراً، ولا يكاد يخلو بيت من هذا المقيم الثقيل. ١٠٪ من كل البشر يصنفون بأنهم (مدمني تلفاز)؛ لأنهم يدامون على مشاهدة برامج من ٣ إلى ٤ ساعات يومياً، وهو المعدل الذي صنفه علماء النفس لتصنيف الشخص على أنه مدمن مشاهدة. وهذا النشاط هو الأكثر ممارسة بعد النوم والعمل.
لكن ماذا يفعل التلفاز داخل عقولنا؟
أُجريت دراسات على عينة من مدمني مشاهدة التلفاز، وكما كان متوقعاً، فقد أجاب معظم المشاركين بأن "خلال مشاهدة التلفاز: أجسادنا تبقى مسترخية وعقولنا كذلك". وصرّح كثير من المشاركين عند سؤالهم عن شعورهم بعد سنين من إدمان التلفاز قائلين: "بطريقة لا نعلم عنها؛ فإن التلفاز يستهلم طاقتنا الروحية ويتركنا ونحن منهكون نفسياً". وصرّح (جون ستنبك) قائلاً: "لقد لاحظت أن مدمن التلفاز يُصبح في حالة دائمة مشابهة لنصف الإغماء، حيث اللسان يميل قليلاً إلى الأمام والفم يصبح متدلياً كالبنطلون والأعين تبدو شبة نائمة. حركة الأطراف تضعف مع الزمن.. يا إلهي ماذا فعل بنا التلفاز؟".
(التلفاز له مفعول مخدر) هذا ما أكدته الدراسة السابقة.. المداومة على مشاهدة التلفاز (تضعف قدرتنا على التركيز وتعكر المزاج)، (نحن أقل سعادة وأكثر قلقاً) كما يقول بعض مدمني التلفاز. وفي استفتاء آخر من جامعة (منيسوتا) استنتج من خلالها (أن مدمني التلفاز أكثر عرضة للضجر والملل، وأنهم يستخدموا التلفاز لتشتيت انتباههم عن مشاكلهم الآنية وعدم إعطاء حلول بها).
بل إن التلفاز لديه القدرة على تغيير نفسية المجتمع وليس الفرد فقط. في عام ١٩٨٥م نُشرت دراسة تشرح تأثير التلفاز على المجتمعات، فقد قام باحث بدراسة أحد المجتمعات قبل وصول كابلات التلفاز إليها ب ٢٥ عاماً، ثم بعد وصولها ب ١٠ سنوات، وقد توصل إلى (أن هناك تحولات جذرية وعميقة بسبب التلفاز؛ فقد أصبح الأفراد أقل سعادة وابتكاراً ونشاطاً وأقل رغبة في الاجتماع). وفي دراسة أخرى من جامعة (شيكاغو)، قام (جاري ستنبر) بدراسة سلوك بعض العوائل بشكل مكثف قبل وبعد التلفاز، وقال (كانت العائلة نشطة مثل خلية النحل، لقد أذهلني ما شاهدته بعد تلك السنين؛ فقد تغيّر كل شيء)، وأجابت إحدى الزوجات عن تأثير التلفاز قائلة: (لم نعد نفعل شيئاً سوى الحديث.. الأبوان في عالم والأطفال في عالم آخر.. المواقع نفسها التي كان يحتلها آباؤنا في السابق عندما كنا صغاراً، قد أزاحها التلفزيون الآن.. إنه جزء من حياتهم)..
*****
د. عبدالله الشنبري.. من كتابه (ماذا فعل بنا الإنترنت؟)، بتصرف كثير جداً.
02.02.2018
#ماذا_فعل_بنا_التلفزيون
#عبدالله_الشنبري
#كتاب_ماذا_فعل_بنا_الإنترنت
#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق