شهر رمضان هو ربيع الأرواح، فهو صيامٌ للجوارح عن الأذى، وفِطامٌ للمشاعر عن الهوى، يستقبله الناس بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع المادة وجهاد العيش، تكدّر فيها القلب، وتبّلد الحس، وتلّوث الضمير، فيجلو صدورهم بالذكر، ويُطّهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من مذخور الخير بما يقويها على احتمال الفتن والمحن في دنيا الآمال والآلام بقية العام كله. لذلك كان رمضان في الشرع الإلهي، طهوراً من رجس العام، وهدنة في حرب القوت، وروحاً في مادية الحياة.
رمضان هو التمرين الرياضي السنوي للنفس، يشترك فيه المسلمون في جميع أقطار الأرض، يصومون في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، وينصرفون عن اللذات الحسية والنفسية؛ ليتجهوا بالتأمل والتعبّد والخشوع إلى الله، فيغضوا أبصارهم عن المنكر، ويكفوا ألسنتهم عن الفحش، ويصموا آذانهم عن اللغو، ويغلوا أيديهم عن الأذى، ويصدوا أهواءهم عن السوء، وتلك هي العناصر الجوهرية لعقيدة الصوم.
وهذه القيود والحدود التي تضمنها معنى الصوم هي المجاهدة التي تُعوّد الإنسان ضبط النفس وقوة الإرادة. وضعف الإرادة إنما يقوى برياضة النفس على الحرمان المؤلم، كما يقوى الجسم برياضة البدن على الجهد العنيف، وكما يقوى العقل برياضة الذهن على التفكير العميق، والرياضة الروحية هي حكمة الصيام في الأديان كلها: (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وإن للجوع أثراً شديداً في تصفية النفوس وتلطيف الطباع؛ لأن كدر النفس يكون في الأكثر من كدر الجسد، وقد قالوا: "إن البِطنة تُذهب الفطنة"؛ لذلك اتخذ كثيراً من أئمة الدين الجوع سبيلاً إلى تهذيب النفس وتقوية العقل وإذكاء الروح.
أديب العربية (أحمد حسن الزيات) (١٨٨٥-١٩٦٨م). من كتابه (وحي الرسالة-الجزء الرابع)، بتصرف كثير.
نعيم الفارسي
21.05.2018
#شهر_رمضان
#أحمد_حسن_الزيات
#كتاب_وحي_الرسالة_الجزء_الرابع
#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق