الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

سيلفريدج.. قصة تستحق أن تُروى.. ثامر عدنان شاكر

لا أعتقد أنّ أحداً يجهل متجر (سيلفريدج) الشهير المتربع في أحد زوايا شارع أوكسفورد العريق بمدينة لندن. لكن ما هي قصة (سيلفريدج)!
بدأت القصة في عام 1909م حيث بدأت خطوات المهاجر الأميركي الذي قرر أن يحمل حلمه إلى بريطانيا العظمى، ويشق طريقه وسط تغيرات سياسية واجتماعية مُتقلبة ومثيرة. شابٌ ثائرٌ يطرق الأبواب، يحلم بتقديم فكرة مختلفة لمجتمع محافظ لا يتقبل الأفكار الجديدة ويتمسك بالتقاليد في صرامة مطلقة، مجتمع له خصوصيته التي يعتز بها جدِّا، فيصر على إطلاق فكرة مشروعه الواعد: إنشاء متجر يبيع كل شيء ولكل فرد وبطريقة مختلفة تماماً عن السائد آنذاك. حلمٌ لا أحدَ يفهمه سواه، لا أحدَ يُصدقه غيره، لا أحدَ يعرف ملامحه سوى قلبه
رغم كل المصاعب التي حاوطته، ما بين صد للفكرة وانفصال شريكه عنه وقلة الموارد المالية، استطاع الشاب الطموح أن يُؤسس متجره الجديد، مُتعدد الأقسام لبيع منتجات مختلفة تحت سقف واحد. يمنح الفرصة للمتسوق أن يُعاين ويُقارن ويختار قبل أن يقدم على الشراء ولا بأس إن لم يشترِ! الأهم أن يستمتع قبل أن يدفع، فتتحول عملية البيع والشراء إلى تجربة ممتعة جذابة بلا ملل، في زمن كانت فيه تجربة التسوق حصرًا فقط على من يملك المال. فرفع شعارالمتجر مفتوح للجميع"،أثِر العقل، وسوف تتحرك اليد نحو الجيب”. ليقدّم بعدها فكرة البضاعات المُخفضة، ليتبعها بعد ذلك بنهج الخصومات السنوية المتداولة إلى اليوم في كل متاجر العالم.
استطاع السيد (سيلفريدج) بذلك أن يجمع كل فئات الشعب، وأن يكسر حاجز الطبقية في المجتمع الانجليزي المُحافظ أو على الأقل أشعل شرارتها الأولى، فبات بوسع الجميع أن يرى لأول مرة أبناء الطبقة المخملية والمتوسطة والكادحة تحت سقف واحد يُمارسون نفس النشاط بلا تفرقة
في عام 1911م أقدم العصامي الثائر على مغامرة أخرى مجنونة: أنشأ قسمًا خاصًا بمستلزمات التجميل والعطور ووضعه في مدخل متجره، متحديًا تقاليد المجتمع التي كانت ترفض أن تُعرض هذه البضائع علنًا حيث كانت تُباع على استحياء وقد عُدت من المنكرات! لتصبح فيما بعد أشهر الأقسام في عالم التسوق الحديث. ولم يكتفِ بذلك، ففي كل صباح باكر كان يضع ورقة تحمل فكرةً جديدة في خانة الملاحظات، وقد عنونها: من أجل التحسين المستمر. ليصبح بوسع مريدي المكان أن يجدوا المطاعم والمقاهي ودورات المياه وخدمات السياحة والمواصلات العامة؛ ليكون بذلك أول متجر في العالم يقدم تلك الخدمات من أجل راحة عملائه.
أما طريقة عرضه للمنتجات فقد اعتبرها جزءًا هامًا من أدوات التسويق لمتجره، فبدأها من الشارع، من خلال نوافذ زجاجية تعرض للمارة كل ما هو جديد بطريقة مبتكرة، فتجدها تارة تحكي قصة، وتارة تُزين بلوحة فائقة الجمال، وتارةً تتحول لخشبة مسرح مُصغّر وقد صعد عليها أشخاص حقيقيون يقدمون عرضًا فنيًا خلابًا، ليصبح سور المتجر محطة يومية يتوقف عنده المارة يبدأون به صباحهم وينهون به يومهم في شارعهم الشهير. واحد وعشرون نافذة ما زالت شاهدة إلى اليوم على جُرأة هذا الرجل الِمقدام، وفكره الثوري الذي سبق عصره. إنه فنٌ الإبهار الذي اشتهر به منذ يومه الأول
لم يكن السيد (سيلفريدج) صاحب أول متجر مُتعدد الأقسام في العالم فحسب، بل مُجددًا ومؤثرًا.. لقد ساهم في تغيير نمط الحياة الاجتماعية برمتها في مجتمع عنيد يتمسك بالتقاليد ولا يُفرِّط بها بسهولة. لم يكن يبيع المنتجات فقط، بل طريقة حياة. لم يكن يعرض بضائعه على الأرفف الأنيقة فحسب، فتتهافت عليها العيون وتتفقدها الأيادي، بل كان يهب الأمل لأحلام العامة والبسطاء من خلال منحهم الفرصة بدخولهم إلى متجره بلا شرط أو قيد. لقد كان يلعب لعبته المفضلة كل صباح. كان يُسيِّره شغفه المجنون، فأصبح متجره أيقونة في قلب عاصمة الضباب ومدرسة تعلَّم منها آلاف المنافسين، بل أغنية لا تُمل كما كان يقول عنه دومًا.
لقد ابتكر أسلوب قيادة يُناسب طبيعة عمله برؤية ثاقبة. كان مُجددًا حقيقيًا ومُحِِّبًا لصنعته، بل ساهمت مدرسته الإدارية المبتكرة آنذاك في ترسيخ معانٍ جديدة في أصول البيع والشراء وطريقة العرض، وتسويق المنتج، وفهم سيكولوجية المتسوق. ابتدع مفهوم خدمة العملاء. كان على قناعة تامة أن الموظف الذي يؤمن برسالة المنشأة التي ينتمي إليها، سيؤدي عمله بإتقان مُلفت، وأن العميل إذا خُدم بطريقة جيدة، فإنه حتماً سيعود مراراً وتكراراً، فولاء الموظف لا بد أن يُصاحبه ولاء العميل وهذا هو مؤشر النجاح الأكبر. هو صاحب المقولات الشهيرة التي خلَّدها التاريخ منذ ذاك الحينالمدير يقول إذهب، أمّا القائد فيقول، هيّا بنا نذهب”. “العميل دائما على حق”..  عبارات أصبحت مفاهيم راسخة، ساهمت في إنشاء مدرسة إدارية ثورية بعد أن جمع ما بين الحداثة والصرامة في إدارته، وقد نجح بذلك أن يُجدد قطاع التجزئة وبقوة، بل في عالم الأعمال بكل قطاعاته.. حاله حال كل العظماء الذين أصروا على أن يزرعوا قناعات جديدة ويُضيفوا بصماتهم، لا أن يسيروا على نفس النسق إرضاءً للجمهور فقط
استطاع (سيلفريدج) أن يصنع من متجره وجهة للعشاق وللمحرومين واليائسين. ثورة حقيقية في المجتمع الإنجليزي المحافظ. تلك الصورة التي حلم بها تحققت. لقد وضع كل فئات الشعب داخل مبنى وعلّم العالم فن التسوّق كما أراده هو.  
لكن الجانب الآخر من قصة المهاجر المناضل لم تكن جميلة أبدًا. كانت حزينة مؤلمة. رجل الأعمال الذي تحوّل لنجم لامع منافسًا أبطال السينما والمسرح، سرقته الشهرة، لم يكن على قدرها. غرق في مستنقع ملذاته. لتصل إلى ذروتها في آخر محطات عمره، بعد أن انتصر المقامر زير النساء على التاجر الذكي المحارب الذي بداخله. إسرافه الشديد، ظهوره المتكرر في النوادي الليلية، داء القمار الذي لازمه طيلة حياته حتى صرعه أخيرًا. تلاشت ملامح الشاب العصامي الطموح القديم، وطغت الشخصية المُسرفة الضائعة، على كل شيء. سقط متجره في وحل ديونه الشخصية، ليضع مجلس الإدارة أخيرًا حّدًا لتلك الكارثة ويصدر قراراً بالاستغناء عن خدماته بعد أن ضاعت حصته هباءً في محاولات تسديد ديونه المتراكمة
لم يُطع، لم يستطع أن يبتعد. رغم كل هذه القسوة التي جناها على نفسه، شُوهد الرجل الثمانيني كثيرًا يحوم حول متجره متكئًا على عصاه. مرتديًا بزته الشهيرة بعد أن شحبت كما شحب كل ما فيه. لكن عوضًا عن رأسه الشامخ المرفوع، كانت نظرات الحسرة والندم تملأ عينيه. كسر الزمن ظهره، لقد خسر كل شيء وعاد فقيراً مُعدمًا، يعد القروش بين أصابعه. قروشٌ معدودات تكفي فقط لأن تقنع قائد الحافلة أن يسمح له بالركوب ليأخذه إلى حيث متجره، كي يلقي عليه نظرة يومية من بعيد.
مات (سيلفريدج) أثرى رجال بريطانيا في زمانه قبل أن يرحل. مات ألف مرة بعد أن اتهمه أحد الباعة ذات يوم أنه يسرق شيئًا من متجرهسيلفريدجبسبب مظهره الرث.. متجره الذي لم يعد يمتلك منه شيئًا سوى اسمه!
أَسدل القدر الستار أخيرًا على مشهد النهاية.. بوفاة السيد (هاري جوردون سيلفريدج) معدماً فقيرًا تائهًا!!
سألوا حفيدته: أتشعرين بالغضب لأنك لم ترثين شيئًا من هذا الكيان العظيم؟ قالت في زهو: "لا أشعر بالغضب. لقد جمع جدي ثروته بنفسه وبددها قبل أن يموت، لكنه ترك أثراً وتاريخاً مميزًا بناه بعرق جبينه. لقد أسس مدرسة التسوق في العالم من خلال متجر ما زال يحمل اسمه إلى اليوم وهذا يجعلني أفتخر"
تجربة واقعية.. الكثير من العبر هنا والكثير من المعاناة، فتجعلك تكتشف أن النجاح منظومة متكاملة. حالة من الاتزان الصعب ما بين العمل الدؤوب، والتحكم في نزواتك.. وقبل كل ذلك التزامك بمبادئك طيلة العمر
لقد كان عبقريًا خلال أيام الأسبوع ، ومغفلاً في عطلة نهاية الأسبوع"، الجملة الأشهر التي تُلخص قصة هذا الرجل. نهاية حزينة لرواية جميلة. الرجل القدير ذو القلب الكبير، صاحب الرؤية والطموح والإصرار، الذي مضى خلف حلمه بجنون وشغف، لم يكن حازمًا في حياته الشخصية. كان ضعيفًا أمام نزواته وهنا كانت الكارثة!!
*****
ثامر عدنان شاكر.. من كتابه (عابر حياة!!)، بتصرف كثير جداً.
نعيم الفارسي
22.11.2018
#قصة_متجر_سيلفريدج
#كتاب_عابر_حياة
#ثامر_عدنان_شاكر

#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق