يقول الليبي (علي العكرمي) (وهو أحد الشخصيات التي اعتقلها العقيد (معمر القذافي) عام ١٩٧٣م إثر خطابه الشهير بتطهير ليبيا من جميع المثقفين، وقد ظل في الاعتقال لمدة ٤٢ عاماً) متحدثاً عن بعض من لقيه في السجن من شخصيات مؤثرة (بتصرف):
"كان الشِعر في السجن للشاعر ولنا طوق نجاة، طريقة في التحليق بعيداً فوق جدران السجن العالية، وسيلة للحلم الذي كان عزيز المنال، بالشعر كنا نبعد قبضة السجان عن أعناقنا، فنتنفس قليلاً.. بالشعر كنا ننسى، والنسيان في السجن يأتي في مقدمة النِعم التي يمكن أن يحظى بها السجين، لولا أننا كنا ننسى، أو نتناسى، لانكسرنا أمام أبسط الأشياء، ولانهزمنا أمام أقل التحديات!!
وكان (عبد العاطي خنفر) الناي الشجي الذي تصدح به حنجرة سجننا، كان نحيل البنية حتى كأنك لا تراه، إذا خلع ثيابه التي تغطي نصفه العلوي صار (غاندي)، وصار بإمكانك أن تعد أضلاعه البارزة من تحت جلده ضلعاً ضلعاً! وكان مع رقة عوده ثورة لا تهدأ، حتى لا تكاد تخلو منه زواية أو حجرة أو ساحة أو زنزانة. له مع كل أحد في العنبر حكاية، بسمته لم تكن لتفارقه، تكشف عن صف أصفر من الأسنان، تساقط بعضها مع الزمن، ودلت على عمر يُنهب مضاعفاً هنا في هذه القبور الكثيرة المتناثرة.
كان ودوداً جداً، لا يمكن أن يُغضب أحداً، وإذا ما حصل احتدامٌ من نوع ما، فإنه يسارع إلى نزع فتيله، كنا نتكىء على حكمته وهدوءه، وصبره في حل كثير من مشاكلنا، وكان معطاء يُؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة.
كثيرون لازموه ليأخذوا عنه العربية الساحرة، فقد كان ضليعاً في علومها، جمع بين الشعر العمودي المقفى والشعر الحديث والشعر الشعبي، وأبدع فيها كلها. وتعلمنا على يديه الصرف والنحو، ولعل الصرف كان يستهويه أكثر من النحو؛ لدقة البناء فيه، وكان جرئياً في التفسير، لكنه مع ذلك مؤدباً فلا يتجاوز ما لم يعلم، ويُرجع الفضل إلى أهله.
كنا نخرج للساحة أوقات التشميس، وأخوه (عبد الغني) في (المحقرة) -وهي المكان الذي وضع فيه الأشخاص الذين سينفذ فيهم حُكم الإعدام- على بعد أمتار من الساحة، لا يسمح له أن يخرج ولا أن يرى الشمس، كنت أعرف من مسحة الحزن التي تغطي وجه (عبد العاطي) أنه لا يستمتع مثلما نستمتع بهذا النور الذي كنا ننتظره بكثير من التوق، ذلك أن أخاه كان محروماً منه. أخوه هذا ظل في (المحقرة) عشرة أعوام لم يخرج ليرى النور ولو مرة واحدة، ولم يرَ أخاه طوال هذه المدة؛ ذلك لأن (المحقرة) مقبرة الأحياء، كل ما فيها كان ميتاً ولكنه يتنفس.
ماتت زوجة (عبد العاطي) وهو في السجن، وحُرم من أن يُلقي عليها نظرة الوداع. في اليوم الذي وصل إليه الخبر كان يبدو شبحاً، انكفأ على نفسه في زاوية الزنزانة، وغطّى وجهه بيديه، وراح ينحب بصمت. كتب لها يوم أن ماتت: "لم أكن أدرك أنّ هناك ما هو أقسى من السجن حتى فقدتك، حين كنا معاً، كنتِ لي كل شيء، ويوم رحلتِ لم يبقَ لي مني شيء. أنا هنا أحلام مبعثرة، ذكريات مذبوحة، وحياة لا معنى بها، لم يكن أحدٌ يدري أنني صمدت بك، أنني بقيت حياً إلى اليوم؛ لأن روحك كانت تُدثرتي، لأن صوتك كان دفئي في الصقيع. اليوم كيف لي أن أعيش، كيف لي أن أبدو حياً، وأنا فقدتُ بفقدك أهم مقومات صمودي: الإيمان. إذا كان هناك عدالة حقيقة في السماء؛ فإنني واثقٌ أنّ الله سيُبطىء رحيلك السريع إليه حتى ألحق بك".
*****
رواية (طريق جهنم)، لأيمن العتوم.
نعيم الفارسي
22.12.2018
#رواية_طريق_جهنم
#أيمن_العتوم
#عبدالعاطي_خنفر
#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق