في عام ١٨٧٩م وفي قرية ألمانية صغيرة تدعى (اولم)، استقبل (هيرمان) وزوجته (جوليت ديرزباخر)، مولوداً غريب الشكل، أصاب والديه بالذعر، فرأسه غير مستوية، الأمر الذي أدى بالأم أن تصلي من أجل أن لا يكون لهذا الأمر تأثير على عقله في المستقبل. أما الجسم فكان أشبه بالبرميل الصغير، ما جعل جدته لأمه تولول صارخة: "إنه بدين أكثر مما ينبغي". فقرر الوالد أن يعرض ابنه على الطبيب الذي طمأنه بقوله: "إنّ الزمن كفيل بإصلاح ما إعوج في جسده".
وبالإضافة إلى كل هذه العيوب الجسدية، واجهت الأبوين مشكلة تأخر الصغير في النطق. يقول عن نفسه أنه لم يحاول الكلام إلا بعد أن تجاوز الخامسة من عمره، لدرجة أن أمه ظنت أن ابنها مصاب بعاهة، ولم تكن له إلا شقيقة واحدة، كانت السبب وراء نطقه بأولى العبارات، فقد وعد الوالدان ابنهما بلعبة جديدة، لكنه ما أن وقعت عيناه على المولودة الجديدة، حتى صاح بكلمات متقطعة :"وأين عجلاتها الأربع"، غير أن كونها أختاً لم يكن بالأمر الممتع، فقد كانت له عادة سيئة وهي إلقاء الأشياء على رأسها، وكما كتبت هي بعد ذلك :"لابد لأخت المفكر أن تكون لها جمجمة قوية ". وبسبب صعوبة الأوضاع المالية اضطرت عائلته أن تنتقل الى مدينة (ميونخ)، هناك أصرت الأم على أن يتعلم ابنها الصغير العزف على آلة الكمان، لكنها واجهت مشكلة كبيرة، فالصغير لا يستوعب الدروس، وكان غير راغب في التعلم.
حين بلغ السابعة من عمره التحق بالمدرسة الإبتدائية، هناك ظن المعلمون أنّ هذا الطفل متخلف عقلياً، فهو بطيء الفهم، يفشل في حفظ أية معلومة، وزاد من مشكلته أنه كان يتأتئ قبل الإجابة على أي سؤال. بعد سنتين يكتشف الأساتذه أن الطفل المعاق ذهنياً يبدي براعة في درس الرياضيات ويهتم بتعلم اللغة اللاتينية، لكنه فشل في دراسة جميع أنواع الموضوعات الأخرى، ما جعل مُدرسية يشكون من سوء إدراكه، وعندما سأل والده مدير المدرسة عن المهنة التي تصلح في المستقبل لابنه؟ أجابه المدير قائلاً: "لا تشغل بالك بهذا الأمر، فهو لن ينجح في أي شيء".
في سن التاسعة تعرّف لأول مرة على العلوم، وكان والده قد أهداه بوصله فتنته بشدة وتصوّر أن هناك قوى خفية قادرة على تحريك الأجسام، فهي أول معجزة يشهدها. في الحادية عشرة من عمره أخذت حياته تنحو منحىً آخر، إذ تحول الى التدين الشديد، فقد خصصت له المدرسة مدرساً لدرس الدين، كونه الطالب اليهودي الوحيد، وبسبب إعجاب المدرس به تملكته نشوة الإيمان، فأخذ ينظم الابتهالات الدينية، لكن فترة الحماس الديني لم تدم طويلا؛ لأنه كلما تعمق في دروس اللاهوت، أدرك تعارضه مع العلم، وفي النهاية يتوصل إلى النتيجة: "من خلال قراءتي وصلت سريعاً إلى قناعة بأن كثيراً مما جاء في قصص التوراة لا يمكن أن يكون حقيقياً".
حين بلغ الخامسة عشرة من عمره، اضطر إلى ترك الدراسة بسبب الأزمات المالية التي عانت منها أسرته، فالأب أعلن إفلاسه، وقرر أن يجرب حظه في (إيطاليا)، حيث بدأ هناك على إنشاء مشروع تجاري جديد، وهكذا وجد نفسه وحيداً في (ميونخ)، يقضي أيامه في مدرسة داخلية، الجميع فيها يكرهون هذا الطالب الغريب الأطوار، فيقرر ذات مساء أن يرحل وحيداً الى (ايطاليا)، لينتهي بعد أيام واقفاً على باب بيت أسرته التي لم تكن تتوقع قدومه.
احتار الأم والأب ماذا يفعلان مع ابنهما الذي لم يكمل دراسته الثانوية، وليست لديه حرفة ولا مهارات تؤهله للعمل، وحين سأله والده عن الوجهة التي يريد أن يتوجه لها في المستقبل؟ أجاب: "إنه يسعى لأن يصبح فيلسوفاً"، الأمر الذي أثار سخرية العائلة التي قررت أن تلحقه بمعهد في (زيورخ)، لكنه لسوء حظه رسب في امتحان القبول، إلا أنه أثار إعجاب الأساتذه بإجاباته على أسئلة الرياضيات والفيزياء، الأمر الذي دفع بمدير المعهد إلى إعفائه من امتحان القبول.
في المعهد، عاش أجمل سني حياته، وأحب السويسريين الذين يقدسون معاني الحرية والتسامح؛ وبدأ مرحلة مختلفة من حياته، فقد بدأ يتعرّف للمرة الأولى على أحدث ما توصل إليه علم الفيزياء، وخلال دراسته اهتم بتعلم كل ما هو جديد في مجال علم الضوء، ويصف هذه السنوات بأنها كانت الأكثر روعة في حياته.
في العام ١٩٠٠م يدخل عامة الحادي والعشرين، يعاني من بطالة، إدارة المعهد الذي تخرج منه بتفوق رفضت تعيينه مدرساً معيداً، فقد اعتبره الأساتذة مغروراً، وأمام هذه الأزمة الجديدة لم يجد مخرجاً غير إعطاء دروس خصوصية. ويفشل في هذه التجربة حيث لم يلتحق بدروسه الخصوصية سوى طفلين!
في عام ١٩٠٢م ساءت أحواله المالية لدرجة أنه كان ينام لأيام دون أن يتناول الطعام، الأمر الذي دفع أحد أصدقاء والده للتوسط بتعيينه في وظيفة بمكتب براءات الاختراع، كانت مهمته فحص هذه البراءة لتقديمها إلى المختصين، ووجد في هذا العمل مُتعة مكنته من التعرف على أفكار المخترعين الصغار.
كان يجد في صديقه (بيسو) محاوراً ممتعاً، وفي بداية عام ١٩٠٥م أخبر صديقه (بيسو) بأنه على وشك حل لغز الكون، وبعدها بأشهر قدّم بحثاً اعتبر النواة الأولى للنظرية النسبية متحدياً أفكار الإنسان السائدة عن الزمن وعن الفضاء وعن المادة والطاقة. وعلى عكس تعاليم (نيوتن)، وضّح أنه ليس هناك شيء يسمى "حركة مطلقة" وأن فكرة الحركة المطلقة لجسم في الفضاء عديمة المعنى.. فالحركة هي الحالة الطبيعية لجميع الأشياء!!
انتظر دون جدوى أن يلتفت العلماء إلى أبحاثه وخاصة بحثه عن النظرية النسبية، لكن العلماء قابلوا أبحاثه بالصمت والإهمال! في عام ١٩٣٦م غدا مواطناً في الولايات الأميركية إذ طرده النازيون من أوروبا. وإذ يعلم أن الألمان يقومون بأبحاث لصنع قنبلة ذرية، كتب خطاباً بالغ السرية للرئيس (رزوفلت): "أتوقع أن عنصر اليورانيوم يمكن أن يتحول إلى مصدر جديد مهم للطاقة في المستقبل القريب العاجل.. كما تؤدي هذه الظاهرة الجديدة إلى صنع القنابل، وإن قنبلة واحدة من هذا النوع، إذا حملتها سفينة وفجرتها في ميناء، أمكنها تدمير ذلك الميناء كله ومعه بعض الأراضي المحيطة به". كانت النتيجة المباشرة لخطابه إلى (روزفلت)، أن بدأ مشروع صنع قنبلة (مالهاتان) الذرية، وبعد ذلك بنحو خمس سنوات فجرت أول قنبلة ذرية، وبعدها بمدة وجيزة حدث التدمير الذريع الذي أحدثته قنبلة ذرية أسقطت فوق (هيروشيما)، وكانت السبب في سرعة انهاء الحرب مع اليابان. برغم أن القنبلة الذرية كانت من أبرز التطبيقات العملية لنظرياته؛ فإن المدى الذي وطد شهرته، هو إنجاز شهير آخر. فمع نظريته الخاصة عن النسبية، كان هناك قانونه الضوئي الكهربي الغامض الذي مهد الطريق لمجيء التلفزيون والسينما الناطقة والعين الكهربية، المعروفة بالعين السحرية التي لقيت استعمالات شتى في كثير من المجالات.
في صباح الاثنين ١٨ إبريل عام ١٩٥٥م يموت العالم الذي حيّر البشرية عن عمر يناهز السادسة والسبعين، وبجانب فراش موته كانت هناك اثنتا عشر صفحة من المعادلات الرياضية مكتوبة بخط أنيق، وإلى جانبها ورقة كتب عليها سطر واحد: "أتحدث اليكم ليس بصفتي مواطناً أميركيا، ولا يهودياً، بل بصفتي إنساناً".
إنه العبقري الذي حلّ لغز الكون: (أينشتاين)، والذي قال عنه الفيزيائي الأميركي الشهير (روبرت أوبنهايمر): "لولا معادلات (آينشتاين) لتعثر العلماء في تجاربهم".
******
كتاب (في صحبة الكتب)، للناقد العراقي (علي حسين)، بتصرف كثير جداً.
نعيم الفارسي
02.01.2019
#أينشتاين
#كتاب_في_صحبة_الكتب
#علي_حسين
#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق