الجمعة، 18 يناير 2019

الراحة في التغيير.. أحمد أمين

خُلق الإنسان ملولاً، يمل النعيم إذا طال، ويمل الشقاء إذا طال، يمل الحر إذا دام، ويمل البرد إذا دام، يمل الأكل الشهي اللذيذ إذا استمر عليه، ويمل الأكل الخسيس إذا استمر عليه. وقديماً ملّ بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، وقالوا: (لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها).
من أجل هذا استعان الناس على درء بالتنويع والتنقل ولو من حسن إلى رديء، فاشتهوا أتفه الطعام بجانب أجوده، واشتهوا عشش رأس البر وأكواخ أبي قير، فراراً من القصور الشامخة والبنيان المشيد، وروعي هذا في برامج الدراسة: فحط بعد لغة، ورسم بعد حساب، ولغة إنجليزية بعد لغة عربية، دفعاً للملل من الدرس ومن المدرس؛ وروعي كذلك في برنامج الحياة: فلعب بعد عمل، ومزح بعد جد؛ وراعت الطبيعة هذا في برنامجها: فليل ونهار، وحر وبرد، وسلطان للقمر بعد سلطان للشمس وهكذا؛ ولولا ذلك لعرى الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئاً ثقيلاً لا يحتمل، ولفر الناس منها إلى الموت طلباً للتغيير والتنويع.
ثم ألا ترى الراحة تكون في الأشياء وأضدادها باستمرار؟ فلو ركبت سيارة من مصر إلى الإسكندرية لأحسست التعب من الركوب، وأحسست الراحة في المشي، ولو مشيت طويلاً لأحسست التعب من المشي، والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم، وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول فراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل، وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء، وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير.
ما أصعب الحياة الرتيبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولابد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعاً من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم، وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القديم من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابه حتى لا يمل ولا يُملّ، وخير المجلات من استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديداً يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين إلى لآخر في كّتابها حتى لا يسأم قراؤها؛ وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يستلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة تدعو إلى النشاط والحركة.
إننا جميعنا نحتاج إلى التغيير، فالمرأة في حاجة لأن تتجدد في بيتها؛ حتى لا يمل زوجها، والزوج يحتاج أن يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمعلم كذلك حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل اتباعه، وأصحاب الملاهي يتجددون حتى لا يملوا. والتغلب على الملل ليس من الأمور الهينة، فليس كل تغيير يصلح لإزالة السام، إنما يصلح التغيير يوم تدرس النفس ويدرس نوع التغيير، كما يدرس المرض ويدرس نوع العلاج، ويكون الدواء طبق الداء.
*****
الأديب المصري (أحمد أمين) (١٨٨٦-١٩٥٤م) من كتابه (فيض الخاطر-الجزء الأول)، بتصرف كثير.
نعيم الفارسي
19.01.2019
#الراحة_في_التغيير
#أحمد_أمين
#فيض_الخاطر

#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق