الاثنين، 14 يناير 2019

امنحني بعد فرصة أخرى..

ذكر الروائي والطبيب الأنجليزي الأشهر (أرتشيبالد جوزيف كرونين) (١٨٩٦-١٩٨١م) في ذكرياته، هذه القصة التي حدثت له أثناء مزوالته لمهنة الطب، فقال: "نشأت نشأة تقليدية متزمتة، صارمة، تحدوني الفكرة القائلة إن كل غلطة تستحق عقاباً. وفي مستهل حياتي العملية سنة ١٩٢١م، عُينّت طبيباً في أحد مستشفيات الأمراض المعدية. وذات ليلة من ليالي الشتاء، بعد وصولي ببضعة أيام، حُمل إليّ ابن ست سنوات مصاب بالدفتيريا. وكان حلقومه مسدوداً تماماً بالأغشية، بحيث أن الأمل الوحيد في انقاذه كان محصوراً بإجراء عملية جراحية له على جناح السرعة.
ولم يكن لي في ذلك الحين أي خبرة تذكر في هذا الحقل، إذ لم يكن قد سبق أن قمت بمثل هذه العملية الجراحية. وفي غرفة العمليات، وقفتُ مرتجف الأطراف، انظر إلى الراهبة العجوز والممرضة الوحيدة، والتي كانت صبية متدرجة عمرها عشرون عاماً، وهما تضعان الصبي المختنق على طاولة العمليات.
وبدأت عملي الجراحي وأنا أشعر بعجزي وقلة خبرتي، وفي نفس الوقت تتملكني رغبة في انقاذ هذا الصبي المترجح بين الحياة والموت، وأحدثت ثقباً، فملأت كمية من الهواء في صدر الصبي المضطرب، وشيئاً فشيئاً تمددت الرئتان، واستعاد الجسد المتعب الحياة. وكدتُ أصيح من فرط الغبطة والارتياح، فأدخلت أنبوبة محقنة ثم خطت حافتي الجرح وأمرت بوضع الطفل في سريره تحت خيمة الأوكسجين، وانسحبت إلى غرفتي مسروراً بانتصاري.
بعد ذلك بأربع ساعات، وكان الوقت حينها الثانية صباحاً، استيقظت مذعوراً على قرع متواصل على بابي، فإذا بها الممرضة الصبية مذعورة وقد شحبت ملامحها، وهي تقول: دكتور، دكتور، تعال بسرعة.
كانت هذه الممرضة مكلفة بالسهر على الطفل، فنامت وهي بجانب سريره، ولما استيقظت تبّين لها أن الأنبوبة المحقنة قد سُدّت، وبدلاً من أن تتبع الأصول المحددة وتعيد فتح الأنبوبة التي اكتظت بالأغشية، وهو ما تستطيع كل ممرضة أن تقوم به، فقدت كل قوة على التفكير واستسلمت إلى الذعر، واقترفت الغلطة التي لا تُغتفر وهي الهرب! وما إن دخلتُ حجرة المريض حتى كان الطفل المسكين قد فارق الحياة، ولم تجدي نفعاً كل الجهود التي بذلناها لإعادة الحياة لجسده!
حينها استولى عليّ غضب شديد بهذا الجرم الذي حدث لخسارة حياة الطفل، بسبب إهمال هذه الممرضة التي أفسدت نجاحي الباهر في العملية. ومثل هذا الحدث، كان كافياً حتماً لوضع حد لممارستها لمهنة التمريض. فقررت أن إرسل تقريراً إلى المسؤلين ليقوموا بإيقافها من المهنة وطردها.
وفي المساء أعددت التقرير، ثم استدعيت الممرضة وقرأت على مسامعها ما كتبت بصوت يقطر غيظاً وسخطاً. فأصغت إليّ الممرضة بصمت حزين، وخجل واضح على وجهها، ولم تقل شيئاً ولم تبرر ولم تنفي عنها التهمة، بل ظلت صامتة حتى صرختُ في وجهها: أليس لديك ما تقولين؟! فتمتمت فجأة: "امنحني بعد فرصة أخرى!".
عندها صرفتها بكل خشونة وأخبرتها بأني سأرسل التقرير غداً. ولكني قضيت الليل بطوله مضطرباً، فلقد كانت تطن في رأسي عبارتها. ووقعت في حيرة من أمري، ذلك بأن هذه الفكرة لم تخطر لي، فلقد انحصر كل تفكيري في معاقبتها على خطأها. وفي اليوم التالي، استعدت رسالتي من الخزانة ومزقتها.
ومرت السنون، فإذا المرأة التي ارتكبت تلك الغلطة، تُصبح رئيسة للممرضات في إحدى المؤسسات الكبرى التي تعنى بالأطفال. وطوال ممارستها مهنتها كانت مثالاً رائعاً للضمير المهني والإخلاص. بل في مستهل الحرب العالمية الأولى تسلمتُ صورة فوتغرافية ملتقطة في ملجأ أُنشىء لتجنب الغارات الجوية، تمثل امرأة في العقد الرابع من العمر في زي رئيسة ممرضات، يحيط بها عدد من الأطفال والأولاد.
الدرس الذي تعلّمته: ينبغي لنا أن نكون متسامحين. يا رب: (اغفر لنا خطايانا كما نغفر للذين أخطأوا إلينا).
*****
الصحفي والأديب (سمير شيخاني) (١٩٢٣-١٩٩٦م).. من كتابه (علم النفس في حياتنا اليومية)، بتصرف.
نعيم الفارسي
15.01.2018
#امنحني_بعد_فرصة_أخرى
#سمير_شيخاني
#كتاب_علم_النفس_في_حياتنا_اليومية

#كتب_قراءة_نعيم_الفارسي

هناك تعليقان (2):

  1. جزاك الله خيرا
    جميلة القصة ومفيدة في كل مجال
    حتى انا كمعلم استفيد منها في عملي

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك على مرورك الجميل.. تحياتي

      حذف