الاثنين، 25 سبتمبر 2017

ورحل والدي.. ليف أولمن

 
حينما كنت في السادسة من عمري، رحل والدي. أتذكرني جالسة وحدي معه قبل إجراء العملية التي كانت الأخيرة له. ظل الأطباء والممرضون يتوافدون ويخرجون -كانت هناك حركة نشطة واستعدادات تجري من حولنا- لكني شعرت وكأننا وحدنا. وحين قال والدي وداعاً بصوت غريب؛ عرفت أننا نكتم سراً مشتركاً. كنتُ أحاول أن أكون شجاعة ولا أبكي. مات والدي متأثراً بورم خبيث في الدماغ.
حاولت طويلاً أن أتذكر أبي.. أتذكر اعتزازي بثوبي الجديد الذي ارتديته خصيصاً من أجل جنازته، وكيف كان الكل رفيقاً معي وعانقني..
أما أبي، فلم يبقَ منه غير بضع صور.
ثمة شخص حملني مرة وارتقى بي الدرج، ووضعني بعناية على السرير، وكان رأسي يرتاح في تجويف نحره.
لا بد أنه كان أبي.
وثمة رجلٌ سار معي على طول درب ريفي. طويل القامة ويرتدي سترة من الجلد البني اللون، ولم يفه بكلمة؛ ولكننا بأيدينا كنا نتبادل إشارات الضغط السرية.
لا بد أنه كان أبي.
والدي، الذي هو موجود في حياتي على مدى ست سنوات، ولم يترك لي ذكرى حقيقية واحدة عنه. إنها ببساطة خسارة فادحة. إن هذا يحز في نفسي عميقاً حتى أنّ الكثير من تجارب حياتي لها صلة به. إن الفراغ الذي خلفه موت أبي، أضحى أشبه بفجوة تستقر فيها تجاربي اللاحقة.
بعد وفاة والدي صارت أمي تأخذني في حجرها، وتحكي لي عن الأوقات الطيبة التي قد أمضيناها في أمريكا، وتعرض عليّ صوراً لفصل الصيف ولأطفال وآبائهم واقفين متشابكي الأذرع، وأبي يصطاد سمكاً ويبني موقداً.. وكنت عندما أرى هذه الصور؛ أحزن لأن تلك الأوقات لن تعود أبداً.
كثيراً ما كانت أمي تحكي لي ولأختي عن الفترة التي لم تكن فيها وحيدة، حين كانت تنام في كل ليلة بالقرب من رجل يحبها. حالةٌ من السعادة كانت ابنتان تحلمان بها باستمرار. أحياناً كنت أسمع أمي تبكي في غرفة الجلوس، وكان ذلك أمراً غريباً ومخيفاً. وكنت أحسب أن الكبار لا ينتابهم الخوف والحيرة أبداً..
صرنا نزور قبره كل يوم أحد، مصطحبين معنا زهوراً أو شموعاً أو إكليلاً من الزهر. كانت أمي دائماً تبدو حزينة، وكنت أكره الوقوف أمام حجرٍ أبيض بارد يدّعي أنه والدي.
وذات يوم دفنتُ كل عرائسي بجوار قبره، لم أكن أريد له أن يستلقي هناك وحده، وسرقتُ زهوراً من قبور أخرى لأضفي البهجة على المكان؛ لأجل أبي والعرائس.
غضب مني الكبار كلهم، وتحدّثت أمي عن الموت بحيث تُجمّله في عيني، وتجعله أشبه بالحُب.
أتمنى أن أموت قريباً.
*****
الممثلة والمخرجة النروجية الشهيرة (ليف أولمن).. من سيرتها (أتغيّر)، بتصرف.
أبو نور
19.09.2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق